مآذن لها تاريخ مآذن السليمانية بإسطنبول

نشر في 25-09-2008 | 00:00
آخر تحديث 25-09-2008 | 00:00
No Image Caption
تمثل مآذن جامع السليمانية في تناغمها مع قبابه، عملا فنيا متكاملا يعتمد على تكرار الإيقاع بين شكل المئذنة المتطاول وهيئة القبة الكروية.

ويعتبر جامع السليمانية أو المجموعة المعمارية للسلطان سليمان القانوني، من أهم الإنجازات المعمارية للمهندس العثماني الأشهر “سنان باشا” وقد استغرق تشييدها سبع سنوات انتهت في عام 965هـ “1557م”.

وقد جعل سنان لجامع السليمانية أربعا من المآذن وزعها بتوازن على أركانه الأربعة، وهي متماثلة تماما، وتبدو في سماء استانبول وكأنها أقلام رصاص مسنونة أو سهام ذاهبة نحو الفضاء ومآذن السليمانية هي بعينها المآذن المألوفة في العمارة العثمانية التي انتشرت في أنحاء السلطنة، بآسيا أو إفريقيا أو أوروبا.

ويعد هذا الطراز من المآذن تطويرا للمآذن التركية الأولى، التي ألحقها السلاجقة بمساجدهم في آسيا الصغرى وما جاورها من أقاليم، ونهج سلاجقة الروم على منوالهم في هضبة الأناضول وقنع المعماريون الأول بأن تكون المئذنة على هيئة أسطوانة متوسطة الارتفاع هي بدن المئذنة، جريا على عادة الأقاليم الآسيوية التي تأثرت بشدة بطراز ملوية سامراء الشهيرة وتنتهي المئذنة بشرفة أولى للأذان، ثم يرتفع البناء مرة أخرى دون سلم خارجي حتى تصل المئذنة إلى الارتفاع الذي يراه المعماري كفأ لمطاولة هضاب الجبال الآسيوية في هذه الأنحاء، ثم تختتم المئذنة بشكل مخروطي يقال إنه قد استوحى من نهايات الأعمدة الخشبية التي كانت تتوسط خيم الأتراك الرحل.

وقد تطور هذا الأسلوب على أيدي المعماريين الأتراك في العصر العثماني، لتأخذ المئذنة شكل القلم الرصاص المسنون، وفي أحيان كثيرة لم يكتف المعماري بمئذنة واحدة للمسجد، بل أنشأ اثنتين على طرفي الواجهة، مما أكسب المسجد العثماني جمالا بديعا بفضل مراعاة التوازن والتناغم الإيقاعي بين مآذن وقباب الجامع.

واستطرد المعماريون الأتراك في ذلك إلى أن جعلوا للمسجد أربعا من المآذن في بعض الأحيان، بواقع مئذنة واحدة في كل ركن من أركان البناء، وهو ما فعله سنان باشا في عدد من مساجده الشهيرة وخاصة في مسجد السليمانية وتمتاز مآذن السليمانية برشاقة ارتفاعها وبشرفاتها الثلاث التي يصعد إليها المؤذنون بواسطة درج داخلي.

وجامع السليمانية جزء من مجموعة منشآت تضم 18 مبنى إلى جانب الأضرحة، وترجع عبقرية المعماري سنان إلى نجاحه الباهر في تنسيقه لبناء المسجد الضخم ثم ربطه ببقية المباني المحيطة ونسق كل هذا بأسلوب جديد وبمفهوم واع لنظريات تخطيط وبناء المدن وكانت نقطة الانطلاق في هذا الأسلوب الاستفادة القصوى من مدرجات الربوة التي تشرف على القرن الذهبي “البسفور” والتي وزعت وحدات المجموعة عليها.

واختار سنان للمسجد أن يقوم كوحدة مستقلة، وأن ينعكس تخطيطه الداخلي على مظهره الخارجي، فجعل قطر القبة الرئيسية 26.5 متر وارتفاعها 53 مترا، وهي بذلك أكثر قباب استانبول ارتفاعا بعد “أيا صوفيا”، ومن أجل زيادة اتساعها من ناحيتي المدخل الشمالي والقبلة في الجنوب أضاف سنان باشا نصفي قبة في كل ناحية بارتفاع أربعين مترا.

أما المساحتان الموجودتان إلى اليمين واليسار - شرقا وغربا - فقد غطيت كل منهما بخمس قباب، وبدلا من الرتابة التي قد تنجم عن استخدام قباب صغيرة متماثلة لجأ سنان إلى ابتكار حل معماري فريد، يتلخص في بناء قبة صغيرة، تليها أخرى كبيرة بالتبادل، وبحيث تكون القبة التي تتوسط الخمس هي الكبرى، وتتعادل في اتساعها مع القباب الركنية القائمة في أركان بيت الصلاة.

وإذا كان جامع السليمانية بارتفاعه المهيب يوحي بعظمة الآمر بتشييده - السلطان سليمان الأول - ودوره في تنظيم الدولة العثمانية بقوانينه المتعاقبة والتي عرف من أجلها بالقانوني، فإن الجامع أيضا يفصح عن عبقرية مهندسه سنان باشا.

وأفاد سنان كثيرا من تجواله في الأراضي العثمانية، وما جاورها من بلدان الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي خلال الحملات العسكرية المختلفة، حيث كان يفحص بعناية المنشآت في البلاد التي يزورها ويمزج بين الملاحظات والأفكار المختلفة التي يلتقطها من هنا وهناك، وبين التقاليد المعمارية التركية، واستحق خوجة سنان مكانته كمهندس عبقري من إبداعاته في تصميم القباب المركزية التي كانت المثل الأعلى عند مهندسي عصر النهضة في إيطاليا، فكان بحق أستاذا كبيرا في بناء القباب، كما اشتهر سنان أيضا بعبقريته الفذة في تنسيق المساحات.

وقام سنان في أعماله المبكرة بمحاولات ناجحة لاستكشاف ما يمكن أن يعطيه الفراغ المتاح داخل البناء من إمكانات وظيفية، دون أن يتخلى عن التقاليد المعمارية العثمانية التي ظهرت في مدن أزنيك وبورصة وأدرنة وتظهر أهم مراحل عبقرية سنان المعمارية من خلال ثلاثة آثار عظيمة، يراها هو معبرة عن مراحل عمره، فالأثر الأول الذي يمثله صبيا هو جامع شهرزادة الذي شيده في عام 951هـ “1544م” بأمر من السلطان سليمان القانوني تخليدا لذكرى ولده الأكبر وأثيره “شهرزاد محمد” الذي توفي وهو بعد في أول السنوات العشرين من عمره ويصف سنان عمله في مسجد شهرزادة بأنه أحد أعمال فترة تلمذته وكان آنذاك في الرابعة والخمسين من عمره.

والعمل الثاني هو جامع السليمانية والذي يوصف سنان نفسه فيه بأنه قد أصبح معماريا متمكنا، أما العمل الثالث الذي نفذه بوصفه أستاذا مبتكرا، فهو مسجد السليمية الذي شيده في أدرنة عام 982هـ “1574م” بأمر من السلطان سليم الثاني بن سليمان القانوني وقد قال سنان عن هذا المسجد أنه يمثل براعته المعمارية، ولم يتجاوز الحقيقة عندما قال هذا فمسجد السليمية يمثل بحق الرمز الحي لمدينة أدرنة، تلك العاصمة الأولى للدولة العثمانية قبيل افتتاح القسطنطينية، ويمتاز المسجد بأنه يشتمل على كل الابتكارات والتجديدات التي استحدثها خوجة سنان حتى ذلك الوقت، بالإضافة إلى بعض مستحدثات العمارة التركية العثمانية ومما له مغزاه أن سنان قد شيد المسجد السليمي بأدرنة، وجعل قبته أوسع من قبة أيا صوفيا، لأنه على ما سجله في مذكراته الشخصية، عز عليه أن يقول المسيحيون إن أحدا لن يستطيع أن يشيد قبة تضاهي قبة أيا صوفيا.

خوجة سنان أو المعماري سنان أشهر مهندس معماري في تاريخ الأتراك قاطبة، وهو معدود بين قمم العالم وعباقرته في مجال العمارة والبناء - والصدفة وحدها - قادته إلى أن يصبح مهندسا معماريا، فقد ولد في أسرة مسيحية تقيم بقرية أغرناس قرب قيصرية في عام 896هـ “1489م”، ثم أخذ الفتى عنوة وفق نظام الدوشيرمة عام 918هـ “1512” والدوشيرمة هي عملية جمع الشبان، وكانت إحدى وسائل الدولة العثمانية لإعداد القوى المحاربة بها، إذ كان يتم جمعهم من القرى المسيحية وفق مواصفات خاصة، ثم يتلقى هؤلاء الشباب تدريبا عاليا ويستخدمون فيما بعد في مقر السلطان، حيث يرتقون حسب الكفاءة إلى أعلى المراتب، ويصبح بعضهم من مرافقي السلطان، كما يختار البعض منهم للمناصب العليا - كالصدارة العظمى أي رئاسة الوزراء أما من بقي من هؤلاء الشبان - وهم الكثرة الغالبة - فكان يتشكل منهم الجيش الانكشاري ويطلق على هؤلاء الانكشارية بمختلف رتبهم “قابي قولاري” أي عبيد الباب العالي على أساس أن هؤلاء الشباب قد جندهم السلطان لخدمته وأصبحوا بمثابة عبيده، وذلك لتمييزهم عن المسلمين الأحرار الذين منعوا أصلا من الالتحاق بفرق الانكشارية.

back to top